ربما كانت بداية الفتنة الرابعة بإعلان أمريكا عن النظام العالمي الجديد أحادي القطبية بزعامتها وما تبع ذلك من أحداث شديدة على الأمَّة ومن أشدّ جوانب هذه الفتنة؛ فتنة الغزو الفكري المدمِّر للأخلاق والقيم والعقائد، ويمكن وصف هذه الفتنة بأنَّها صمَّاء عمياء سوداء مظلمة لغفلة عامَّة الناس عن إدراك مدى خطورتها والتي تفوق الغزو العسكري بكثير، وقد عركت الأمّة عرك الأديم حتى لم يكد ينجو منها بيت، وتبع هذه الفتنة أو هذا الجانب غلبة الغثاء والخبث وزيادته زيادة فاحشة وتقليد الغرب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه}، ومن جوانبها أيضًا العولمة أو الأمركة، وعواقب هذه الفتنة (فتنة الدهماء) كثيرة ومتداخلة ومتنوّعة، ثم هي متزايدة حتَّى تنجلي بسقوط أمريكا وظهور جبل الذهب وبه يبدأ التمحيص والتنقية الشاملة.
وقد جاء ذكر الفتنة الرابعة في آثار عديدة ذكرها نعيم بن حماد في (الفتن) وجاءت الإشارة إليها في أحاديث صحاح، فمما جاء في كتاب (الفتن) عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تأتيكم من بعدي أربع فتن، فالرابعة منها الصمَّاء العمياء المطبقة تعرك الأمَّة فيها بالبلاء عرك الأديم حتى يُنكر فيها المعروف ويُعرف فيها المنكر تموت فيها قلوبهم كما تموت أبدانهم} وقال أبو هريرة t: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر الفتنة الرابعة لا ينجو من شرّها إلاّ من دعا كدعاء الغرق، أسعد أهلها كلّ تقيّ خفيّ إذا ظهر لم يُعرف وإن جلس لم يُفتقد، وأشقى أهلها كلّ خطيب مسقع أو راكب موضع. وعن أرطاة بن المنذر قال: بلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة الرابعة: {تصيرون فيها إلى الكفر، فالمؤمن يومئذ من يجلس في بيته، والكافر من سلّ سيفه وأهراق دم أخيه ودم جاره} وعن أبي هريرة t قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الفتنة الرابعة ثمانية عشر عامًا ثم تنجلي حين تنجلي وقد انحسر الفرات عن جبل من ذهب تكبّ عليه الأمّة فيقتل عليه من كلّ تسعة سبعة} وفي أثر آخر موقوف؛ قال أبو هريرة t: الفتنة الرابعة عمياء مظلمة تمور مور البحر لا يبقى بيت من العرب والعجم إلاّ ملأته ذلاًّ وخوفًا، تطيف بالشام وتعشى بالعراق وتخبط بالجزيرة بيدها ورجلها تعرك الأمّة فيها عرك الأديم ويشتد فيها البلاء حتى يُنكر فيها المعروف ويُعرف فيها المنكر، لا يستطيع أحد يقول مه مه، ولا يرقعونها من ناحية إلاّ تفتّقت من ناحية، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرا ولا ينجو منها إلاّ من دعا كدعاء الغرق في البحر، تدوم اثني عشر عامًا تنجلي حين تنجلي وقد انحسر الفرات عن جبل من ذهب فيقتلون عليه حتى يقتل من كلّ تسعة سبعة.
وروى مسلم في صحيحه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا} وفي رواية الحاكم وصحّحها ووافقه الذهبي؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لَيغشَيَنّ أمّتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع أقوام دينهم بعرَضٍ من الدنيا قليل} وقال: {تكون فتنة النائم فيها خيرٌ من اليقظان واليقظان فيها خيرٌ من القائم والقائم فيها خيرٌ من الساعي فمن وجد ملجأً أو معاذًا فلْيستعذ به}(صحيح مسلم) وقال: {يأتي عليكم زمان لا ينجو فيه إلاّ من دعا دعاء الغرق}(قال الحاكم والذهبي صحيح على شرط الشيخين) وعن عبد الله بن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قعودًا فذكر الفتن فأكثر ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل: يا رسول الله وما فتنة الأحلاس؟ قال: {هي فتنة هرب وحرب ثم فتنة السرّاء دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنَّه منِّي وليس منِّي إنَّما وليِّي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع* ثم فتنة الدهيماء (أو الدهماء) لا تدع أحدًا من هذه الأمَّة إلاَّ لطمته لطمة فإذا قيل انقطعت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا حتى يصير الناس إلى فسطاطين؛ فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، إذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد} قال الأرنؤوط رجاله ثقات رجال الصحيح وكذلك صححه الحاكم والذهبي والألباني.
* أي (يصطلحون على أمرٍ واهٍ لا نظام له ولا استقامة)(النهاية في غريب الحديث) وقال القاري: (هذا مثَل، والمراد أنَّه لا يكون على ثبات).
وفتنة الأحلاس قال الخطابي: ( إنَّما شبّهها بالحلس لظلمتها والتباسها أو لأنَّها تركد وتدوم فلا تقلع). والدهماء السوداء، وفي النهاية: (الفتنة المظلمة)، وقال شمر: أراد بالدهناء الفتنة السوداء المظلمة.
وبنهاية هذه الفتنة ينقطع العقد وينفرط نظمه وتتابع أشراط الساعة الكبرى؛ الخسف في المشرق والمغرب وجبل الذهب ثم الرايات السود ثم الخسف في جزيرة العرب وظهور المهدي ثم خروج الدجال ثم نزول المسيح عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ثم خروج يأجوج ومأجوج ثم طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ثم الدخان ثم الريح الناعمة ثم هدم الكعبة ثم القحطاني ثم النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الإمارات خرزات منظومات بسلك فإذا انقطع السلك تبع بعضه بعضا} قال الحاكم والذهبي: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: {إنَّ الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات؛ خسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ في جزيرة العرب والدخان والدجال ونزول عيسَى بن مريم ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونارٌ تخرج من قعرة عدن ترحل الناس}(صحيح مسلم).